• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

عطاء الكلمة الطيِّبة

عمار كاظم

عطاء الكلمة الطيِّبة

يقول تعالى في كتابه العزيز: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ) (إبراهيم/ 24-26). إنّ الله سبحانه وتعالى يريد أن يركِّز في وجدان الإنسان أنّ كلَّ حياته في دورها الإيجابي تختصرها (الكلمة الطيِّبة) كما أنّ كلَّ حياته في دورها السلبي تختصرها (الكلمة الخبيثة). فالإنسان الذي يعيش العقل كما يريده الله، ويعيش القلب كما يحبّه الله، ويعيش الحركة كما يرضاها الله، هو (الكلمة) المتجسِّدة في إنسانه، ونحن نؤمن أنّ الله سبحانه وتعالى أعطى عيسى (عليه السلام) صفة أنّه كلمته، وربما يفسِّرها البعض لأنّه انطلق من إرادة الله التي يعبِّر عنها (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يس/ 82). الكلمة الطيِّبة ليست محدودة في جانب معيّن، فهي كلمة طيِّبة لأنّها تغني الحياة وتعطيها حركيتها وحيويتها، وهي كلمة طيِّبة للإنسان لأنّها تجعل عقله طيِّباً ينفتح بكلِّ الطيب الذي يتحرّك به الفكر فتشعر بطيب الفكر في عقله، وتجعل القلب طيِّباً فإذا بالقلب كلّه محبّة وخير وانفتاح، وتجعل الحركة طيِّبة فإذا بها تنطلق لتعطي فاكهة فكرية هنا، وثمرة روحية هنا، ومشروعاً للحياة هناك، فالكلمة الطيِّبة تمثّل كلّ إيجابيات الحياة وكلّ إنسانية الإنسان ولهذا شبّهها الله تعالى في عطائها وحيويتها وفي امتدادها وفي عمقها بالشجرة الطيِّبة (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً) (إبراهيم/ 24)، أتريد أن تعرف ما الكلمة الطيِّبة في الواقع؟، انظر إلى الشجرة الطيبة، فإذا بها تمتد جذورها في أعماق الأرض حتى تكاد تنفتح على الأرض بكلِّ عروقها، وإذا بها أيضاً تمتد في السماء حتى تبلغ إلى أبعد ما يمكن أن تبلغه أغصان الشجر.

ثمّ إنّ عطاء (الكلمة الطيِّبة) ليس له موسم معيّن، ففي الربيع تعطيك الثمر وفي الصيف تعطيك وفي الشتاء وفي الخريف، هذه هي الكلمة الطيِّبة في صورتها المادّية الحسِّية، فهي عندما تكون صدقاً، حقّاً، وعندما تكون عدلاً، علماً، وعندما تكون خيراً، فهي تؤتي أكُلَها كلّ حين، فالخير لا فصل له، فكلّ الفصول فصوله، والحقّ لا موسم له، فكلّ المواسم مواسمه، وهكذا العدل وكلّ القيم الروحية (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً) في عمقها، وفي امتدادها، وفي عطائها، (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا). والله تعالى لا يأذن إلّا بالمحبّة (وَيَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ) (إبراهيم/ 25)، فالله يضرب المثل بالشيء الحسّي لننتقل منه إلى الشيء المعنوي (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)، فيا أيّها الإنسان فكِّر.. حرّك فكرك وعقلك، وحاول أن تأخذ شيئاً من شيء، وحاول أن تستنتج، ولا تجمِّد على ما عندك بل طوّره بالانتقال من (الحسِّي) إلى (المعنويّ) ومن (المعنويّ) إلى (معنويّ آخر).

أيّها الناس، انظروا إلى الكلمات الطيِّبة كيف امتدّت وقد مات الرُّسُل ومات الأولياء، ويبقى القرآن أمدَ الدهر يمتد فكراً وقيمة وحركة وحيوية، وانظروا إلى الكلمات الخبيثة، كيف ذهبت مع الرياح، فيما يبقى الله وتبقى كلماته، ويبقى الإنسان يحلِّق في الكلمات الطيِّبة التي ترتفع إلى الله (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ) (فاطر/ 10)، فهل لنا أن نأخذ بالكلم الطيِّب في حياتنا الفردية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية حتى ينطلق الكلم الطيِّب ليغني حياتنا؟ فكِّروا فيما يخلد، ولا تفكِّروا فيما يموت... (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، تلهون بها لحظة أو لحظتين (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ)، في كلماتكم، (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ) في أعمالكم، (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ) في مشاريعكم، و(وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ) في كلِّ الحب الذي تعطونه، وفي كلِّ الحقّ الذي تثبِّتونه، وفي كلِّ الباطل الذي تهدّمونه (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا) (الكهف/ 46).

ارسال التعليق

Top